العربية
100%
علي (ع) إمام الأمة

قراءات في شرعية خلافة الإمام علي (ع)

الحلقة السادسة: (قراءات في شرعية خلافة الإمام علي (ع))

إن الأسس الفكرية في عقيدة الشيعة الإمامية التي نهض بها أئمة الهدى (ع) هي التي أفرزتهم وعينتهم للخلافة الشرعية التي واكبت الجنس البشري منذ فجر التأريخ لحاجة الإنسان إلى اتصال بين السماء والأرض، وعبر من يختاره الله تعالى لإداء رسالته وتعاليمه، من هنا يأتي اعتقاد الإمامية بعصمة الأنبياء والدفاع عنهم، من طريقة اختيار الله عز وجل لهم، ولنبواتهم التي هي عهد إلهي بعضها امتداد لبعض وإلى نبوة خاتم الرسل محمد (ص) وسيرته [1]، المعصومة التي لا يصدر عنها إلا الحق بدليل قوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى)[2]، فقد نص على علي بن أبي طالب (ع) وقدمه  للأمة الإسلامية ولياً لعهده وخليفة له بأمر من الله تعالى بأدلة عقلية ونقلية لا تحصى كقوله (ص): (الأئمة بعدي اثنا عشر أولهم علي بن أبي طالب وآخرهم القائم، هم خلفائي وأوصيائي وأوليائي، وحجج الله على أمتي بعدي، المقر بهم مؤمن، والمنكر لهم كافر)[3].

فولاية الإمام علي وأولاده (ع) أساسها القرآن الكريم، ومحورها السنة النبوية الشريفة، ولأهمية هذه القضية فإن السنة كما تحدثت عن عددهم، تحدثت عن وجوب استمرار سلسلة أولئك الأئمة من أهل بيت النبي (ع)، الذين يمثلون في سيرهم المسيرة الواقعية للإسلام، فكان وجود إمام منهم في كل عصر من العصور لطفاً من الله تعالى يعهد السابق على اللاحق وفق معايير خاصة ليكون حجة لله، لئلا تبطل حججه وبياناته تعالى على الناس، وعلى الناس أن يؤمنوا به فقد قال تعالى: (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ)[4].

والإمام الحق هو ما يقصد به للنجاة والهداية، أما إمام الجهل والجور الاعتقاد به من مسببات الضلالة لقوله (ص): (مَن مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتةً جاهلية)[5]، وهو ما تعلقت به ذمم القوم بعد عهد النبي (ص) في علاقتهم مع الإمام علي بن أبي طالب (ع) عند عدم إطاعتهم له كونه إمام عصرهم.

وقد تعددت النصوص والأدلة في إثبات شرعية الإمام علي (ع) ومن أشهرها الحادثة التي حصلت يوم (غدير خم) أمام حشود كبيرة من المسلمين قرابة مئة ألف في تجمع قل نظيره في تأريخهم الإسلامي بعد رجوع النبي (ص) من آخر حجة يقال لها حجة البلاغ أو حجة الوداع[6].

وفيها خطب النبي (ص) خطبته الشهيرة بـ(خطبة الغدير) بعد أن جمعهم بذلك الموقف المهيب في كلام له يطول، منه قوله: (فمن كنت مولاه فعليّ مولاه، ثم قال: اللهم وال من والاه وعاد من عاداه)[7]، وقال: (وأحبّ مَن أحبه، وأبغض من أبغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحقَّ معه حيث دار، ألا فليبلغ الشاهد الغائب)[8].

وفي هذه الحادثة وقبل أن يصل النبي (ص) أرض الغدير هبط جبرائيل (ع)، وقال: يا محمد إن الله تعالى يقرئك السلام ويقول لك: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)[9].   

فيتضح من الآية الكريمة أن النبي (ص) كان متخوفاً من أن يتهم بالمحاباة والتحيز لصهره، وقد يتخذ البعض من هذا النص دعاية للتشكيك بنبوته، وهو ما جعل رسول الله (ص) يتردد عند نزولها[10].

وبعدها أفرد النبي (ص) خيمة لمبايعة الإمام علي(ع) من قبل تلك الجموع الغفيرة يدخلون من طرف ويخرجون من طرفها الآخر (يهنئون أمير المؤمنين (ع) على الولاية، وفي مقدمتهم أبو بكر، وعمر بن الخطاب، وكلّ يقول: بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة، فقال ابن عباس: وجبت والله البيعةُ في أعناق القوم)[11].

وقبل أن يتفرق الجمع نزل أمين وحي الله بقوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً)، فقال رسول الله (ص): الله أكبر على إكمال الدين، وإتمام النعمة، ورضى الرب برسالتي، والولاية لعليّ من بعدي)[12].

وبهذا السياق روي أن النضر بن الحارث في ذلك المشهد، والرسول (ص) بعده في الخطبة قال: (أمرتنا بالشهادتين عن الله فقبلنا منك، وأمرتنا بالصلاة والزكاة، ثم لم ترضَ حتى فضلت علينا ابن عمك، ألله أمرك؟ أم من عندك؟ فقال: والذي لا إله إلا هو إنه من عند الله، فولى وهو يقول: اللهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء، فوقع عليه حجر من السماء فقتله)[13].

ورغم عظمة هذا الحدث وتواتر حديث الغدير فقد نكثوا بيعتهم للإمام (ع)، ولم يتسن له استعمال صلاحية خلافته بعد رحيل النبي (ص)، وقال (ع): (فنظرت في أمري فإذا طاعتي قد سبقت بيعتي وإذا الميثاق في عنقي لغيري)[14]، يريد بذلك أن الله تعالى أوجب له (ع) على الناس الطاعة قبل أن يأخذ الرسول (ص) منهم البيعة له في غدير خم، ولكنه أُجبر على بيعة الخليفة الأول.

نعم غالبية المؤرخين لم يتحدثوا عن حادثة الغدير بما ينسجم مع عظمة هذه الواقعة، فكان إغفالاً متعمداً، لأن في دراستها دراسة علمية موضوعية وكحقيقة إسلامية وتأريخية كبرى في بدايات ظروف تبليغ الرسالة لها دلالة وارتباط بمستقبل الإسلام سياسياً، وحتى القرآن الكريم كان واضحاً في تبيان هذه المنزلة فكانت الآيات مرتبطة تأريخياً مع هذه الحادثة ومع غيرها من الحوادث وكلها وثائق وأدلة واضحة، وبراهين دامغة لا يمكنهم تجاوزها.

ولم يكن نص الغدير وحده الذي أسهم بالإعلان عن إمامة الإمام علي (ع) وعن خلافته، فقد سبق ذلك اهتمام واسع، وتعامل مميز من رسول الله (ص)، أفرز له مواقف ولائية فاق الاعتناء به كبار الصحابة.

فمثلاً في حادثة الدار التي حصلت بأمر من الله تعالى، أن يجمع النبي (ص) عشيرته بني هاشم ويبلغهم أنه يختار من بينهم وصيّاً بقوله تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين)[15]، بعدما ضاق النبي (ص) ذرعاً من أذى قريش له، فقال رسول الله (ص): (إن الله تعالى أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، وأنتم عشيرتي ورهطي، وإن الله لم يبعث نبياً إلا جعل له من أهله أخاً ووزيراً ووارثاً ووصياً وخليفةً في أهله، فأيّكم يقوم فيبايعني على أنه أخي ووزيري ووصيي ويكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي؟)[16]، فلم يقم إلا علي (ع)، وأعادها النبي (ص) أكثر من مرة فقام علي (ع) من بين أهله وأعلن استجابته لدعوة رسول الله (ص)، وكان أصغرهم سناً ليكون له الأخ، والوزير، والوارث، والوصي، والخليفة، فبايعه النبي (ص) وقال: (إن هذا أخي ووصيي ووزيري وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا)[17].

وقال هو (ع): (دعاني النبي فقال: يا علي إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين فضقت ذرعاً وعلمت أني متى أبادرهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره فصمتُّ عليه حتى جاءني جبرائيل فقال: يا محمد إلا تفعل ما تؤمر به يعذبك ربك، فقال لي: يا علي فاصنع لنا صاعاً من طعام واجعل عليه رجل شاة واملأ لنا عساً من لبن واجمع لي بني عبد المطلب حتى أكلمهم وأبلغهم ما أمرت به)[18].

وقال (ص): (ما قبض الله نبياً حتى أمره أن يوصي إلى أفضل عشيرته من عصبته، وأمرني أن أوصي. فقلت: إلى من يا رب؟ فقال: أوص يا محمد إلى ابن عمك علي بن أبي طالب، فإني قد أثبته في الكتب السالفة، وكتبت فيها أنه وصيك)[19].

وكانت التأكيدات متلاحقة من النبي (ص) فمن جملة ذلك أن علياً (ع) عدل القرآن، أو هو القرآن الناطق، إذ ثبت أنه لا يفترق عنه الكتاب الكريم مطلقاً، والنص صريح بهذا الجانب مهما أغفله الآخرون، فيه أن التمسك بالإمام (ع) كالتمسك بالقرآن الكريم، لقول رسول الله (ص): (إني تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي أبدا، أحدهما أعظم من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما)[20].

ويتضح من الحديث أن القرآن الكريم والإمام علي (ع) ثقلان متلازمان لا يمكن منع وإزالة الضلال بأحدهما أبداً، كل منهما يكمّل الآخر، وبصريح عبارة ابن حجر أن علياً (ع) هو عترة رسول الله (ص) حين وصف أهل بيته بأربعة ألفاظ وقال: هم الآل، وأهل البيت، وذوو القربى، والعترة[21].

وفي حادثة النجم قال ابن عباس: صلينا العشاء الآخرة ذات ليلة مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلما سلّم أقبل علينا بوجهه، ثم قال: أما إنه سينقض كوكب من السماء مع طلوع الفجر فيسقط في دار أحدكم، فمن سقط ذلك الكوكب في داره فهو وصيي، وخليفتي، والإمام بعدي، فلما كان قد قرب الفجر جلس كل واحد منا ينتظر سقوط الكوكب في داره، فلما انبلج الفجر انقض الكوكب من الهواء فسقط في دار علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): يا علي، والذي بعثني بالنبوة، لقد وجبت لك الوصية والخلافة والإمامة بعدي، فقال بعض المنافقين مثل (عبد الله بن أبي، وأصحابه): لقد ضلّ محمد في محبة ابن عمه وغوى، وما ينطق في شأنه إلا بالهوى[22]، فأنزل الله تبارك وتعالى: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)[23].

وفي قوله تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى)[24]، ذُكر في تفسير الميزان أن لا أجر على الدعوة والرسالة إلا مودة العترة، قربى النبي (ص) من أهل بيته الذين ذكرهم في حديث الثقلين (علي وفاطمة والحسن والحسين) صلوات الله عليهم، لإرجاع الناس إليهم.

وبهذا الصدد روي عن سلمان المحمدي قوله: (قلت يا رسول الله لكل نبي وصي، فمن وصيك؟ قال: أتعلم من وصي موسى؟ قلت: نعم يوشع بن نون قال: لم قلت ذلك، قال: لأنه أعلمهم. قال: فإن وصيي وموضع سري وخير من أترك بعدي، ينجز عدتي ويقضي ديني علي بن أبي طالب)[25].

وفي آية المباهلة يصور القرآن الكريم أن الإمام علياً (ع) هو نفس النبي (ص) بقوله تعالى: (فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين)[26]، وهذه الحادثة مستفيضة لدى المؤرخين حين خرج النبي (ص) لمباهلة نصارى نجران اصطحب معه علياً وفاطمة والحسن والحسين (عليهم أفضل الصلاة والسلام)، فالأبناء في الآية الحسن والحسين، والنساء فاطمة، والنفس علي صلوات الله عليهم أجمعين.

وفي قوله تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)[27]، أجمع المفسرون أن هذه الآية الكريمة خصت الإمام علياً (ع) حين دفع خاتمه زكاة في المسجد وهو راكع[28].

وفي غزوة تبوك ثبت أن الإمام علياً (ع) وزيراً للنبي (ص) وشريكه في تبليغ الرسالة، فقد روي أنه عندما سار رسول الله (ص) بجيشه إلى العدو خلّف الإمام علياً (ع) على المدينة، فقال له (ص): (أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي)[29].

وهذا الحديث يفسر الآية الكريمة في قوله تعالى عن موسى (ع): (واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري)[30]، فمن الآية الكريمة والحديث الشريف نستدل أن كل ما هو ثابت لهارون يثبت للإمام علي (ع)، وبما أن هارون أخ ووزير لموسى (ع) وشريك في تبليغ دعوته، إذن الإمام علي (ع) هو أخو رسول الله (ص) ووزيره وشريكه في تبليغ الرسالة الإسلامية، وأخوته ظهرت جلية حين آخى رسول الله (ص) بين المهاجرين والأنصار، وضم الشكل إلى الشكل، والمثل إلى المثل، ولم يواخِ لعلي أحداً فتركه لنفسه[31].

ونستنتج من هذه الحوادث ومن بقية الحوادث التي لا يسعنا إحصائها كحادثة الكساء، والتصدق بالخاتم، وآية المودة، والتطهير، والمؤاخاة، والسفينة، والأمان، وحديث (سلموا عليه بإمرة المؤمنين)، وعشرات الشواهد فيها دلالة واضحة أن أمور الإسلام والمسلمين ما كانت لتغيب عن تدبير رسول الله (ص)، طوال مدة الدعوة يرى بعلي (ع) المؤهلات واللياقة العالية، فأهلته المواقف أن ينال ثقة النبي (ص) المطلقة ليكون خليفة له، فهو ذو شخصية عظيمة احتلت الصدارة إيماناً وتقوى وقرباً من الله تعالى.

وسيعلم طلاب الدنيا أنهم ارتكبوا جريمة بحق نبيهم (ص) وبحق الإمام علي (ع) التي ولايته ليست مكتوبة على المسلمين كافة فحسب، وإنما حتى على جميع الأنبياء والمرسلين من عمق التأريخ أنهم تولوا الإمام علي بن أبي طالب (ع)، بدلالة النصوص، فقد ورد عن أبي سعيد أن رسول الله (ص) قال: (يا علي ما بعث الله نبياً إلا وقد دعاه إلى ولايتك)[32].

وجاء في الحديث القدسي: (وعلى ذلك أخذت ميثاق الخلائق ومواثيق أنبيائي ورسلي، أخذت مواثيقهم لي بالربوبية، ولك يا محمد بالنبوة، ولعلي بن أبي طالب بالولاية)[33].

وعن أبي سلمى قال: قال رسول الله (ص) في الحديث القدسي: (يا محمد إنّي خلقتك وعلياً وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من ولده من نوري، وعرضت ولايتكم على أهل السماوات والأرض، فمن قبلها كان عندي من المؤمنين، ومن جحدها كان عندي من الكافرين)[34].

       من هنا أتت عظمة الإمام علي (ع) فليس الإمام بالرجل العادي لينحصر ذكره عند دين، أو فرقة، أو طائفة معينة، وإنما منزلته أنّه المعظّم عند جميع أهل الملل والنحل إسلامية وغيرها، فالجميع يعلم عن مدرسته الفكرية كقول (المعتزلي) أنه عليه السلام شيّد نظاماً متكاملاً في علاقة الإنسان مع الله تعالى، وعلاقة الإنسان مع نفسه، وعلاقة الإنسان مع غيره، وشكّل نهضة عقائدية، ومعرفية للإنسانية جميعاً بقيت على طوال الدهر، خدم بها الأجيال بأرفع مراتب النصح.

 وهذا عين ما أراده النبي (ص) من خليفته إعطاء هذا البيان الرائع بحقه، ومنهج تسير عليه الأمة الإسلامية بعد عصر النبوة أن يمتد بظله شعاع الإسلام إلى أبعد نقطة في الأرض، وعليه ومن خلال هذه الأدلة وبقية الشواهد والبراهين فالمسلم ينبغي أن يخرج من عهدة مسؤولية تكليفه الشرعي، فيلزم عقلاً وشرعاً أن يتأكد من سلامة الطريق الذي يريد أن يسلكه، ويستدل على أحقية المذهب الذي سيقيم عليه.

ألم تكن للإمام علي (ع) دون غيره من أكابر الصحابة نصوص من القرآن والسنة، وأنه من أهل بيت النبي (ص)، وله فضائل ما لا يحصى عددها ذكرتها العامة والخاصة في كتبهم، ألا يفترض أننا نهتدي إليه إماماً وخليفة.

نعم مرت محنة على الناس عندما هُمش وأُبعد الإمام علي (ع) عن مسند خلافته، فلو رضوا به وبمرجعيته لتحقق لهم أمانان في الدين والدنيا، ولكانت فيها نجاتهم وسعادتهم لأن أمير المؤمنين (ع) لم يكن ليبين الأحكام فحسب، بل يكون عليها رقيباً، لأنه المخوّل من قبل السماء لقيادة السلطتين التشريعية والتنفيذية، وهو ما نطلق عليه في الشريعة حكم الحاكم الشرعي الذي سلطته منصب ولي أمر المسلمين، عنوان مخصص له ولأبنائه أئمة الهدى (ع)، وعلى المسلمين السمع والطاعة كما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)[35].

 وفي الفصل الأخير من حياة رسول الله (ص) وعند مرضه الذي مات فيه فقد ذكر المؤرخون أنه كان يعلم أن القوم سيتنكرون لعلي (ع) عندما يريد أن يتقلد الخلافة، وفعلاً حصل ما تخوف منه النبي (ص) أنهم في ذلك الحين طعنوا في صغر سنه، لكن رسول الله (ص) بادر إلى عمل فيه تمام الأمر الإلهي، فأمر بإعداد أكبر جيش، نصب فيه الشاب أسامة بن زيد قائداً لمحاربة الأعداء، ووضع تحت إمرته جلّ الصحابة وكبارهم أبي بكر، وعمر، وطلحة، والزبير، وعثمان، وأبقى علياً (ع) إلى جانبه، وبهذه الإشارة هو ألغى معنى صغر السن من أذهان القوم، وإن العمر ليس معياراً في استحقاق القيادة، والولاية، والإمرة، وإنما يقدّم الكبير لسنه من باب الاحترام لا من باب أن يقود، والآخر إبعاد الصحابة عن المدينة، وعن ساحة الصراع السياسي.

وفعلاً لم يمتثلوا أمر خروجهم بالرغم من تكرار النبي (ص) لمرات متعددة بإخراج جيش أسامة على الفور، وكان (ص) يغمى عليه بين الفينة والأخرى، وكلما كان يفيق يردد: (جهّزوا جيش أسامة لعن الله من تخلّف عن جيش أسامة).

ورغم ذلك فأوامر النبي (ص) لم تؤثر فيهم أو تجدي نفعاً، وتخلّف جيش أسامة وتجمّع الصحابة عنده لأنهم علموا مراد رسول الله (ص) وهو في أشد حالاته، عندها قال (ص): (ائتوني بالكتف والدواة أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده)[36]، فقالوا: هجر رسول الله (ص) وغلبه الوجع حسبنا كتاب الله تعالى، فاختلفوا وعلا صوتهم، وهذه مخالفة صريحة لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ)[37]، فقال (ص): (دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه)[38]، فكانت هذه الحادثة من المصائب، حيلولة القوم دون أن يكتب رسول الله (ص) لعلي بن أبي طالب (ع) دليلاً مكتوباً لولايته وخلافته.

وهذه الأمور كان النبي (ص) على علم تام بها، وبما ستؤول إليه أحوال المسلمين بعده، وعلى يقين أن أول شرخ سيأتي من الذين يريدون الاستفادة من الإسلام، أو ممن ستتهدد مصالحهم.

من هنا ومن خلال هذا المشهد القاتم وقبل أن يودع النبي (ص) الدنيا، قرأت السيدة الزهراء (ع) الواقع وتوقعت أن الأيام القادمة ستكون عصيبة، فأجهشت بالبكاء وانكبت على صدر والدها، وعلي (ع) واضع رأس النبي (ص) في حجره، فانتبه رسول الله (ص) بعد إغمائه وهو يجود بنفسه، فقال لعلي (ع): (ما يبكيك يا علي؟ ليس هذا أوان بكاء فقد حان الفراق بيني وبينك فأستودعك الله يا أخي، فقد اختار لي ربي ما عنده، وإنما غميّ وحزني عليك وعلى هذه)، وأشار إلى فاطمة (ع).

وفارقت روح النبي (ص) الدنيا، وانشغل الإمام علي (ع) هو وأهل بيته في تغسيل وتكفين ومواراة رسول الله (ص)، وهو ما يتوجب على جميع الأمة أن يؤدوا عرفان فضل هذه الشخصية العظيمة، فانشغل الصحابة عنه، وهو مسجى واجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، وتكشف الواقع عن حقيقة طالما كانت مستورة، فخابت الآمال وظهرت جلية لحظة موت رسول الله (ص) فاختاروا مباشرة وبالسرعة خليفة غير الإمام علي (ع)، فذهبت السلطة إلى من لا يستحقها، بحجة أن النبي (ص) لم يوصِ ولم يعين أحداً من بعده،  فكان ظلماً بائناً وخطأً فادحاً بحق المسلمين وبحق نفس المعيّن، وبهذا الصدد روى أن سعد بن عبادة قال: فوالله لقد سمعت رسول الله (ص) يقول: (إذا أنا مت تضل الأهواء بعدي ويرجع الناس على أعقابهم، فالحق يومئذ مع علي)[39]، وقال هو (ع): (حتى إذا قبض الله رسوله (ص) رجع قوم على الأعقاب)[40]، وهو قوله تعالى: (أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم)[41].